بين الحذاء والمواطن العربي، عِشْرَةُ عُمْر - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


بين الحذاء والمواطن العربي، عِشْرَةُ عُمْر
وهيب أيوب - 21\12\2008

لقد تردّدت وتريثت قليلاً قبل الكتابة عن هذا الموضوع، ريثما تهدأ قليلاً الثورة "الحذائية" العارمة التي اجتاحت العالم العربي. فربما تذهب السَكرة وتأتي الفكرة؟

يبتهج الكثيرون لترداد قصة الزعيم السوفياتي السابق نيكيتا خروتشوف، باستخدام حذائه عوضاً عن يده والضرب به على منصة الأمم المتحدة، ولا أدري أي مأثرة فعل حينها! فلنتخيل لو عاش خروتشوف لحين سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكّكه، كيف كان سيستخدم فردتي حذائه في التعبير عن الندم والخذلان. أنا على ثقة بأن خرتشوف، يومها، كان يعبّر في سلوكه هذا عن ضعفٍ حقيقي يعلمه في داخله، لا عن قوّة، بدليل سحبه للصواريخ من كوبا أثناء الأزمة الشهيرة.

في زمن الانحطاط والهزائم هذا الذي تعيشه الشعوب العربية، بات باستطاعة أي غبي أو موتور أن يجرّ هذه الشعوب الخاوية المُنفعلة خلف حذائه، بل دونه!
في بعض ردود الأفعال على الحادثة، قال أحدهم: أتمنى أن أُقبّل هذا الحذاء. وقال آخر: إن هذا الصحافي، استعاد مجد وكرامة الأمة العربية والإسلامية بضربة حذائه. وقال ثالثٌ: إنه يجب وضع هذا الحذاء في المتحف العراقي بديلاً عن القطع الأثرية التي سُرقت منه بُعيد الاحتلال. ومدرّب المنتخب العراقي أسماه "حذاء الكرامة"، وهناك من عرض شراء الحذاء بعشرة ملايين دولار، ناهيك عن فعل الحذاء بفتح قرائح "الشعراء" وتفتّق أذهانهم عن قصائد تُمجّد الحذاء وترفع فِعلة صاحبه إلى مستوى الخوارق الأبطال! ثم التظاهرات والاعتصامات، ورفع الحذاء كشعار للمرحلة وقدوة وقبلة للمناضلين. ولا أستبعد أن يقوم بعض "المفكرين الحذائيين" باقتراح استبدال نشيد "بلادي بلادي" بـ"حذائي حذائي"، وقصيدة نزار قباني التي أنشدتها أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية" بقصيدة بديلة تناسب عظمة الحدث: "أصبح عندي الآن قندرة". وبدل وادي "عَبْقَرْ" الذي كان العرب الجاهلية يعتقدون أن شياطين الشعر تخرج منه لإلهام امرئ القيس وباقي الشعراء وتُملي عليهم شعرهم وقصائدهم، بات اليوم لدى العرب وادي "الصرامي" هو مُلهم القرائح والقصائد لشعراء عصر الحذاء!

باتت العصبية والانفعالية وردود الأفعال الهستيرية غير المنطقية واللاعقلانية هي التي تحكم وتتحكّم بـ "النُخب" العربية قبل الغوغاء والشارع. إنه عُصاب جماعي وخواء فكري وثقافي وعجز ذهني لم يسبق له مثيل.

إن الاحتفاء بصحافي استبدل قلمه وعقله بفردتي حذائه، ورفعه إلى مستوى الأبطال ومحقّق المعجزة، خير دليل على إفلاس هذه الأمة وانحطاطها وعجزها وقصورها عن أن تأخذ حيّزا لهاً ولو بحجم "الحذاءِ" بين الأمم المتحضّرة.
إنه الخواء وقلّة الحيلة والوسيلة في إتيان أي عملٍ آخر يفوق حادثة الحذاء.
إن ما فعله الزيدي لا يعدو وصمة عار في جبين الصحافة والثقافة التي يمثلهما.
وأعجبُ لأمة يدغدغ مشاعرها حذاء على هذا النحو الهستيري، ولا تحرّك ساكناً جرّاء أحذية تحكمها وتدوس رؤوسها ورؤوس كتّابها وشعرائها ومبدعيها يومياً منذ عقود إن لم نقل قرون!

قد تكون الموجة الهستيرية الحالية تعبير واحتجاج باطني غير مُدرك، لِمَ للحذاء، الشحاطة، البابوج، القندرة، الصرماية، البسطار والجزمة، من حضور في وعي وذاكرة المواطن العربي، فالأم تضرب أولادها بالصرماية، وزوجها يضربها بالحذاء، وكان المحققون العراقيون يضربون بالقندرة على رقاب العراقيين أثناء استجوابهم، وكان صهر الرئيس صدام حسين، حسين كامل "المقتول" وزير الصناعة والتصنيع العسكري في العراق، حين يقابل لجنة التفتيش الدولية يضع قدميه فوق الطاولة موجّهاً حذاءه في وجه اللجنة تحدّياً واستهتاراً، إضافة لملايين الفقراء العرب والأطفال الذين يسيرون حفاةً، لا يملكون ثمن حذاء. والحذاء الأهم بين كل تلك الأحذية هو حذاء الحاكم والسلطة ورجال الأمن الذين لم يرفعوا أحذيتهم وجزماتهم وبساطيرهم العسكرية عن رؤوس ورقاب هذا الشعب منذ زمنٍ بعيد. إذن فالعلاقة بين الحذاء والمواطن العربي هي مسألة عشرة عمر، فكيف ينساها؟

هذا الانفصام في الشخصية العربية على مختلف مستوياتها يعبّر أقبح تعبير عن مدى التهتّك النفسي والتشظي الفكري لأمة استساغت استبدال عقلها بحذائها. وهؤلاء، جميعاً، يعلمون أنه لا يمكن لهذا الصحافي أو لغيره في العالم العربي أن يضرب مجرد مسؤول أو حتى شرطي أو رجل أمنٍ بحذاء، إلا ويفقد حياته في التو واللحظة، وتُستأصل عائلته عن بكرةِ أبيها.
لو قام مُحتجّون متظاهرون برمي بوش والمالكي أيضاً بأحذيتهم أو بأي شيء آخر لكان الأمر طبيعياً ولا حَرَج فيه، لكنها ليست مهمة الصحافي الذي يُمسك بكاميرته وقلمه وورقته وبطاقة عضويته الصحافية التي تؤّهله الدخول لأي مكانِ لا يستطيع الآخرون دخوله، لتكون مهمته نقل الأحداث وتوجيه الأسئلة والإدانات وحتى التهجّم إن أراد فيمَ يعتقده دفاعاً عن أهله ووطنه. إن مهنة الصحافي مهنة جليلة عمادها العقل والقلم، ومنتظر الزيدي بكل بساطة رمى مهنته الشريفة هذه بفردتي حذائه. وهنا يكمن النقاش وجوهر المسألة؛ لا أحد يناقش إن كان بوش يستحق الضرب بالحذاء أم بالرصاص، فـ"بوش" مُجرم حرب هو وإدارته وعلى هذا الأساس يجب محاكمتهم لو كان هناك من عدل وحق في هذا العالم، ولكن كلمة "لو" لا تنفع في التاريخ والصراعات الدولية، إنما موازين القوى وقدرة الأمم وإرادتها على مواجهة الظلم والعدوان، لا بالأحذية! ولكن بالعلم والمعرفة والتربية والحرية والثقافة والفن والأدب والإنتاج والتنمية والاقتصاد والرفاهية.
وقد عرّف القاضي والفيلسوف الأمريكي "أوليفر هولمز" الحق، على النحو التالي: (الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأُخرى) هكذا دون أي مواربة.

أعتقد أن في ذاكرة الأمريكيين حذاءً واحداً ترك لديهم جرحاً وأثراً أليماً، وهو حذاء السفير الأمريكي في "سايغون" الفيتنامية عام 1975 حين ظل المقاومون الفيتناميون يطلقون النار على آخر أمريكي هارب؛ في تلك اللحظات حاول السفير الأمريكي اللحاق بطائرة الهيلكبتور التي كانت تحوم فوق السفارة الأمريكية لإنقاذه ، ولشدَّة خوفه واستعجاله تعثّر أثناء صعوده للمروحية وفلتت فردة حذائه من إحدى قدميه، فتركها وغادر ناجياً بريشه وبالفردة الأخرى.

ماذا سيحصل بعد هذه الثورة "الحذائية" الهوجاء المُنفلتة من كل عقلانية وأخلاقية؟ لا شيء بالتأكيد. سيستمر القتل الطائفي في العراق وتستمر التفجيرات الانتحارية في قتل النساء والأطفال والأبرياء، ويستمر احتلال العراق وتستمر حكومة المالكي المُنتخبة ديمقراطياً من غالبية الشعب العراقي في ظل الحراب الأمريكية ومباركة الدول العربية، وسيستمر فقراء العرب بالسير حفاة، ويستمر الحكّام العرب في إحكام أحذيتهم فوق رؤوس هذه الشعوب و نُخَبِها "الحذائية" الجاهلة البائسة السافلة، ويستمر جهل وفقر واستغلال وقمع الشعوب العربية على حاله، ولن تؤثّر حادثة الحذاء على تقدّم تلك الشعوب ولو بمقدار "44"- مقياس الحذاء، بينما ستضاف قصة الزيدي وحذاءه إلى التراث العربي أسوة بحذاء أبي القاسم الطنبوري ليتندّر بها العرب في المقاهي والصالونات "الثقافية"، وليصبح الحذاء "تابو" جديداً ليشبع تقديساً وتقبيلا، من أمة لا تعرف للعقل مكاناً ولا لغبائها حدوداً... فقبّلوا إلى ما شئتم... تقبّلَ الله منكم وليس منا.

أخيراً، لا بُد أن أذكر أجمل قصة إنسانية قرأتها تتعلّق بالحذاء: وهي أن المهاتما غاندي عندما كان يهمُّ بصعود القطار الذي كان ينطلق سائراً ببطء، سقطت من قدمه فردة حذائه، فسارع بخلع الأخرى ورماها إلى جانب أختها، فسأله رفاقه بالقطار، لماذا قُمتَ برميها؟ فأجابهم: لعل يأتي من يجدها وهو بحاجة إليها، فلا تفيده واحدة دون الأُخرى.

وهيب أيوب
الجولان المحتل – مجدل شمس
waheeb_ayoub@hotmail.com